أحال مسلسل الأخطاء الطبية الذي لا ينتهي، الأطباء إلى أشباح في نظر المجتمع، وما بين قلة الخبرة وبين الاستغلال المادي يتوه المريض، ويتحول إلى سلعة للمتاجرة والاستغلال، وفي النهاية يكون هو الضحية.
وباتت الأخطاء الطبية تشكل هاجساً مقلقاً للجميع، وتجعل الكثير يفكراً مراراً قبل الذهاب لطلب العلاج مما يسمعه عن الكثير من الأخطاء، التي قد تكون مميتة في كثير من الحالات؛ ما أفقد الكثيرين الثقة في الخدمات الطبية المقدمة لهم في بعض المستشفيات الحكومية والخاصة، ولعل غياب الإحصاءات الموضحة نسبة الأخطاء الطبية داخل المملكة يقف عائقاً أمام تحديد حجم الكارثة، إلا أنه من المؤكد للجميع أن مسلسل الأخطاء الطبية بدأ منذ وقت ليس بقصير، لكن لا أحد يعلم متى سينتهي؟
"سبق" تحاول سبر أغوار هذه القضية، عبر رصد حالات واقعية، والتوجه إلى المختصين للتعرف على آرائهم، لعلنا نجد الجواب الشافي الذي يمكن أن يضع نهاية لهذا المسلسل.
مأساة أم بشري
بكل الأسى والحزن سردت "أم بشرى" مأساتها لـ" سبق " قائلة: "تزوجت منذ عشر سنوات عانيت خلالها من العقم، والعام الماضي وبفضل الله بشرتني الطبيبة بحملي، وشعرت أن أيامي ابتسمت لي، واستبشرت بها فتابعت الحمل معها، وبفضل الله كانت كل التقارير طبية تشير إلى إمكانية ولادتي بشكل طبيعي".
وتابعت: "بدأت في تجهيز غرفة مولودي المنتظر وأتخيل ملامحه البريئة التي طالما حلمت بها، نسجت أحلاماً جميلة برؤيته والشعور بأنفاسه، وعندما حان موعد ولادتي ذهبت لمستشفى خاص، ولم أجد الطبيبة التي تابعت حملي، وحولت لطبيبة أخرى، تركتني أعاني مدة ست ساعات ثم أشارت علي تسهيلاً للولادة بعملية شفط للجنين، ونظراً لآلامي المبرحة فقد وافقت على اقتراحها، وبعد إفاقتي من الولادة علمت أن جنيني أصيب في المخ وتوفي من جراء عملية الشفط".
وعبرت عن مشاعرها قائلة: "أصبت بانهيار عصبي عندما علمت بوفاة ابنتي، وذبل عمري وتوقفت حياتي وأضحت مظلمة في عيني، ونصحني الأهل بالتقدم بشكوى ضد هذه الطبيبة حتى لا تتسبب في إزهاق أرواح آخرين".
انفجار الرحم وموت الجنين
ماجد القحطاني زوج مواطنة أضيرت من الأخطاء الطبية عبّر لـ" سبق" عن عميق حزنه قائلاً: "زوجتي كانت تتابع مراحل حملها الأخيرة في أحد المستوصفات في خميس مشيط، وكنا نأمل الخير من الطبيبة التي أقنعتنا بسهولة عملية الولادة بهذا المستوصف، وعندما شعرت زوجتي بألم الوضع توجهنا للمستوصف، وقد أعطت الطبيبة "إبرتين" إحداهما في الرحم مباشرة، وأخبرت زوجتي بضرورة المشي في ردهات المستوصف تيسيراً لعملية الولادة".
وأضاف: "اتصل بي المستوصف ليخبرني بتحويل زوجتي إلى أحد المستشفيات الحكومية؛ بسبب انفجار الرحم وأن المولود قد فارق الحياة قبل توليده، وأن علي التوقيع على إجراء عملية جراحية لإنقاذ حياتها فسارعت بالتوقيع، وقد باشر العملية عدد من الأطباء المتخصصين؛ الأمر الذي أسهم في إنقاذ حياتها بأعجوبة من خطر الوفاة بعد أن حالفتها عناية الله، وقد بقيت منومة لدى المستشفى تحت الملاحظة والعناية الفائقة حتى وردتنا موافقة معالي وزير الصحة على نقلها إلى مستشفى الملك فهد الطبي بمدينة الرياض، مساء الخميس الموافق 14/12/1432هـ".
وأوضح: "منذ هذا التاريخ وزوجتي حالتها الطبية غير مستقرة، فقد حدث تضخم في إحدى كليتيها بسبب ضغط الطبيبة عليها أثناء عملية الولادة، ومنذ يومين أجرت عملية جراحية "تركيب وصلة للحالب"؛ لأن سبب تضخم الكلية هو انسداد الحالب على إثر مشاكل الولادة"، وأعرب عن قلقه إزاء غموض حالة زوجته الطبية، مطالباً الجهات المختصة "بالتحقيق مع إدارة المستوصف لكشف ملابسات القضية وأبعادها وإيقاع أقصى العقوبات بحقهم، ومحاسبة المتسببين في وفاة ابني وتعويضي عن ذلك".
قلة الأطباء
من جهته قال نائب رئيس اللجنة الصحية بالهيئة الصحية الشرعية الشيخ عبد الرحمن العجيري، إن أبرز الأخطاء الطبية تظهر في المستشفيات الأهلية والمستوصفات وبعدها المستشفيات الخاصة بنسبة أقل، فيما تنعدم تقريباً في المستشفيات الحكومية.
ونوه إلى أن المستشفيات عليها عامل كبير في حدوث الخطأ ليس الطبيب فقط، موضحاً أن الأحكام التي يصدرها القضاة في قضايا الأخطاء الطبية محددة بلوائح وكل عقوبة لها حد أدنى وأقصى، ومتى ما ثبت التفريط والإهمال، تصدر العقوبة وفقاً للوائح وقد يلجأ القاضي لأقصى العقوبة في حالات الإهمال غير المبرر.
وحول التباطؤ في حسم قضايا الأخطاء الطبية، عزا التأخير إلى قلة عدد الأطباء فأغلب أطباء الهيئة غير متفرغين، وإذا ذهب طبيب نأخذ وقتاً طويلاً للبحث عن بديل، وأرجع قلة الأطباء إلى ضعف مكافآت طاقم الهيئة التي لم تزد منذ 20 عاماً على 400 ريال سعودي في الجلسة، وهذا لا يتناسب مع الوقت الذي نعيشه مما زاد من التأخير وزاد من التباطؤ، مشيراً إلى الطبيب يرفض المجيء للهيئة لعدم وجود حافز مادي محترم يجعله يسارع إلينا.
الوقاية أفضل من العلاج
وبحثاً عن حل لمسلسل الأخطاء الطبية الذي لا ينتهي رأى نائب رئيس اللجنة الصحية أن الوقاية أفضل من العلاج، وقال: "قبل وقوع العقوبة يجب أن يكون هناك تكثيف للمراقبين والتراخيص، ملقياً اللوم على وزارة الصحة وعلى القدرات الطبية والطاقم الطبي والعجز الواضح داخل الوزارة.
وقص لـ"سبق" إحدى القضايا الشهيرة التي ثبت فيها أن طبيب التخدير يعمل دون ترخيص لأكثر من ثلاث سنوات، والطبيبة التي قامت بالعملية جاءت إلى المستشفى قبل يوم من العملية ولم تستوف أوراقها، مؤكداً أن هناك مسلسل إهمال بدأ منذ سنوات عدة.
وعن أبرز الأخطاء الطبية التي جاءت للهيئة قال: "قضايا متعلقة بتخسيس الوزن والسمنة عند النساء"، محذراً النساء من عدم اللهث وراء عمليات التخسيس وأطباء التجميل التي بدأت تنتشر بدرجة كبيرة الآن، وختم حديثه برسالتين إحداهما وجهها لوزارة الصحة قائلا : أرواح البشر تحتاج منا كل التعب والجهد لنحافظ عليها والثانية للنساء قائلاً: "الحمية واتباع نظام رياضي أفضل وآمن للصحة من العمليات التي لا تأتي بالنتائج المرجوة، وعادة ما تنتهي بمشكلة للمريض".
لا توجد إحصاءات
من جهته أشار عضو مجلس الشورى ورئيس لجنة الشؤون الصحية والبيئية الدكتور عبدالله زبن العتيبي، إلى أن المملكة العربية السعودية لا توجد بها إحصاءات متعلقة بمعدل الأخطاء الطبية، مرجعاً السبب إلى عدم الحصول علي المعلومة الصحيحة وعدم وجود سجل وطني يوثق مثل هذه الحالات، التي غالباً ما يتم معرفتها عن طريق القضاء أو الهيئة الطبية الشرعية المكلفة بالنظر في هذه القضايا، أو أن يتم تداولها في وسائل الإعلام.
وأكد العتيبي أن هناك العديد من الأسباب التي تؤدي إلي حصول الخطأ الطبي وتبدأ بالتشخيص الخاطئ؛ بسبب قلة المعلومات الطبية لدى الطبيب المعالج، أو عدم توفر الإمكانيات التشخيصية أو لخطأ بالتحاليل، كما أن الجهل باستخدام الأجهزة الطبية في مجال التشخيص،وعدم وجود نظام جودة متكامل لسلامة المريض ورعايته بشكل عام وشامل لهما دور كبير في زيادة الأخطاء الطبية.
وأبان لـ"سبق" أن لجنة الشؤون الصحية والبيئية في مجلس الشورى، سعت إلي دراسة هذه الظاهرة المقلقة بحسب ورودها في تقارير الجهات المعنية، والأسباب التي أدت لحصولها في ضوء وجود التشريعات النظامية للنمو بقدرات الكوادر الصحية في المملكة.
غياب التوثيق الدقيق
وأوضح أن مجلس الشورى قام بجهود في هذا الجانب حفاظاً علي سلامة المريض وتطوير الخدمات الصحية والرفع من قدرات الممارسين الصحيين بالتعاون مع الجهات المسؤولة، فهناك قرار مجلس الشورى الذي نص على إنشاء هيئة مختصة مستقلة للجودة النوعية في الخدمة الصحية، وآخر خاص بنظام أخلاقيات البحث على المخلوقات الحية، وبصدد الانتهاء من دراسة مقترحة مقدمة من عضو اللجنة الصحية الدكتور محسن الحازمي بإيجاد نظام الجودة النوعية وسلامة المريض.
وقال العتيبي إن المشكلة الرئيسة في عدم وجود توثيق دقيق لحجم هذه المشكلة؛ بسبب ضعف آليات رصد الأخطاء الطبية والإبلاغ عنها، ولعدم وجود سجل وطني لهذه الأخطاء، وقد أوصت لجنة الشؤون الصحية والبيئة من منطلق أهمية إيجاد آليات لرصد هذه الأخطاء الطبية والإبلاغ عنها بإنشاء سجل وطني ليكون أحد المؤشرات الدقيقة لأداء المؤسسات الصحية الحكومية والخاصة؛ ما يمكن من تحليلها وتحديد جوانب النقص التي أدت إلى حدوثها ومن ثم العمل على تلافيها.
أبراج عاجية
وكشف رئيس مجلس الإدارة والرئيس التنفيذي للمركز الطبي الدولي بجدة الدكتور وليد فتيحي لـ"سبق" عن بعض نتائج بحثه في موضوع الأخطاء الطبية التي خلصت إلى وجود تفاوت كبير في فهم المشكلة وتحليل أسبابها بين المعالج والمريض، موضحاً أن وجهة نظر المريض أن معظم الأطباء والمستشفيات ليس لديهم الرغبة في الاستماع إلى شكواه، لافتاً إلى عدم وجود نظام واضح في معظم المستشفيات يتيح للمريض إبداء رأيه أو رفع شكواه إلى إدارة المستشفى للنظر فيها والتحقيق في حيثياتها.
وبيّن أن ردود فعل معظم المستشفيات عند شكوى المريض هو الدفاع وإلقاء اللوم عليه، نافياً وجود رغبة صادقة في دراسة شكوى المريض وتصحيح النظام المتبع إذا لزم الأمر.
وأشار فتيحي إلى أن كثيراً من الأطباء يعيشون في أبراج عاجية ويفترضون جهل المريض ويقصّرون في تقديم شرح وافٍ للمريض، أو محاولة تبسيط المفاهيم والمصطلحات للمريض؛ بحجة أن المريض جاهل، ولفت إلى أن كثيراً من المستشفيات الخاصة أهدافها مادية بحتة، مشيراً إلى أن المعاملة الطبية في الغرب أكثر إنسانية من المعاملة في عالمنا العربي.
عقدة الخواجة
ونفى وجود معلومات عن الأطباء والمستشفيات تساعد المريض على ترجيح طبيب على آخر أو مستشفى على آخر، مبيناً أن ما يحدث غالباً هو الترجيح على أسس غير علمية أو صحيحة ومعلومات غير موثقة، وتساءل لماذا لا يكون هناك كُتيب طبي في كل مستشفى يحتوي على تقارير كاملة عن كل طبيب وشهاداته العلمية وسنوات خبرته، وغيرها من المعلومات التي تساعد المريض على اتخاذ قراره.
وألمح الرئيس التنفيذي أن جهل كثير من المرضى يجعلهم عرضة للفهم الخاطئ، فيخلط بين مفهوم الخطأ الطبي الناتج عن الإهمال وبين المضاعفات المتوقعة لكثير من العمليات التي لا بد أن تحدث بهذه النسبة في أفضل مستشفيات العالم، حتى لو أجراها أمهر الأطباء، محذراً من "عقدة الخواجة" المتحكمة في كثير من المرضى العرب،، فالمريض يقتنع بكل ما يقوله الطبيب الغربي ويشك في ما يقوله العربي، حتى إن كان أكثر علماً وخبرة من الغربي في كثير من الأحيان.
غرفة العمليات
فيما أجرت عضو هيئة التدريس قسم التربية في جامعة الملك سعود، الدكتورة شريفة القاسم دراسة ميدانية عن الضرر الذي يقع على الأطفال من جراء الأخطاء الطبية الدراسة، من خلال ندوة أقيمت في جامعة الملك سعود التي أكدت فيها أن أكثر المتضررين من الأخطاء الطبية نساء وأطفال، مؤكدة أن أكثر الأخطاء الطبية تقع في غرفة العمليات أو أثناء التشخيص والعلاج، حيث أثبتت التقارير أن نسبة الخطأ الذي يقع على المواليد وصل إلى 20%.
وأشارت إلى العديد من الأخطاء الطبية تقع أثناء إجراء العمليات أو أثناء التشخيص والعلاج، وحيث إن أكثر العمليات التي تجرى في المستشفيات المحلية هي عمليات الولادة؛ لذا نجد المتضرر هم النساء والأطفال معاً، مضيفة أنه في مرحلة الطفولة يتعرض الأطفال للأمراض وباستمرار لنقص المناعة لديهم، وعدم الدقة في التشخيص أو عدم الدقة في وصف العلاج كما يحدث في حالات كثيرة، يؤدي إلى مشاكل عدة للأطفال؛ ما يحول بعض الأمراض البسيطة إلى أمراض مزمنة تؤثر على الطفل وأسرته فيما بعد.
حصر الأخطاء
وطالبت وزارة الصحة بحصر الأخطاء طبية ومعالجتها والقضاء عليها قبل استفحالها وتأثيرها على المواطن والوطن، ورداً على سؤال عن كيفية التقليل من مسلسل الأخطاء الطبية الذي لا يتوقف أجابت بضرورة إنشاء جهة تابعة للوزارة تكون مهمتها متابعة الأخطاء، والتحقق من مسبباتها والقضاء عليها.
تزوير شهادات
وأفاد المحامي والمستشار القانوني المتخصص في قضايا الأخطاء الطبية أحمد المحيميد، بأن النساء والأطفال أكثر تعرضاً للأخطاء الطبية من الذكور، خاصة في عمليات الولادة والإجهاض، والنزيف في عمليات التجميل، مرجعاً السبب في زيادة معدل الأخطاء للركون إلى شركات التأمين وضعف أنظمتها ولوائحها، موضحاً عقوبات مرتكبي الأخطاء الطبية في العقوبات النظامية وهى الديّة الشرعية، والعقوبة الإدارية مثل الإنذار أو إنهاء العقد والغرامة المالية، والإبعاد لغير السعودي.
وتطرّق إلى قضية تزوير الشهادات الطبية قائلاً: "إن تزوير الشهادات الطبية ظاهرة سابقة، انحسرت كثيراً في هذه الفترة نتيجة العمل الدؤوب الذي تقوم به الهيئة السعودية للتخصصات الصحية، مبيناً عقوبة التزوير في السجن والغرامة والفصل من العمل، وسحب الشهادة، والإبعاد من البلاد للأجنبي".
صعوبة إثبات الخطأ الطبي
ولفت إلى أن إجراءات إثبات الخطأ الطبي معقدة، تستغرق وقتاً طويلة وتحتاج إلى الصبر لإنهائها، مبيناً أن المحاكمات تتم عبر ثلاث مراحل: في المستشفى والهيئة الصحية الشرعية وفي ديوان المظالم، فضلاً عن طلبات الصكوك والعينات والتقارير الطبية، موضحاً أن القضايا التي يتم إثبات الخطأ فيها نادرة للغاية لا تتجاوز 3% من الشكاوي المرفوعة.
من جهتها تواصلت "سبق" مع وزارة الصحة وأرسلت بأسئلتها عبر الإيميل إلى المتحدث الرسمي، إلا أنها لم تتلق رداً حتى الآن.