والهداية
هي الرشاد في الأمر، والسداد هو الاستقامة والقصد في جميع الأمور، وهو
معنى ما قاله النووي رحمه الله في شرحه على صحيح مسلم.
فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم يأمر عليا رضي الله عنه بأن يسأل الله عز
وجل الهداية أولاً، ثم يسأله الاستقامة على هذه الهداية والسداد فيها، وأن
يقومه كما يقوم صاحب السهم سهمه.
وسؤال الهداية أمر لازم لكل سائر إلى الله عز وجل؛ فكل الخلق ضالون إلا من
رزقه الله الهداية ووفقه لاتباع طريقها، كما جاء في الحديث القدسي الشريف:
[يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم].
الهداية هدايتان:
ومعلوم أن الهداية هدايتان: هداية دلالة وإرشاد وبيان، وهداية
توفيق وإلهام.. فالأولى عامة لابد من إيصالها لكل المكلفين، وقد جعلها الله
مناطا للحساب { وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا}..
وقد أقام الله الحجة على عباده أجمعين فبين لهم أعظم بيان، وأرشدهم إلى
الحق أيما إرشاد، وعرفهم بنفسه وبحقه عليهم أتم تعريف، بإرساله الرسل
وإنزاله الكتب، كما قال سبحانه: { وإن من أمة إلا خلا فيها نذير}، {رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل}، وقال سبحانه عن جميع بني آدم: {وهديناه النجدين}، وقال: {وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى}..
ودلالة البيان هذه أحق الناس بها رسل الرحمن وقد بينوا للناس وقاموا بحق
الله في ذلك على أتم وجه، ثم سار على طريقهم أتباعهم من العلماء والدعاة
الذين اقتفوا نهجهم فأقاموا الحجة على العباد..
ولكن تبقى هداية التوفيق بيد الملك الذي بيده قلوب عباده يصرفها كيف يشاء،
فمن استحق هذه الهداية وهبها الله له منةً وتوفيقا وفضلا، ومن لم يكن أهلا
لها حرمه منها حكمة منه سبحانه وعدلا { ولا يظلم ربك أحدا}.
وليس لأحد من عباد الله في هذه الهداية قليل ولا كثير، حتى رسول الله صلى
الله عليه وسلم، لا يملك أن يهدي أحدا هذا النوع من الهداية، فكم تمنى أن
يسلم عمه أبو طالب وسعى كثيرًا لذلك حتى عند موته جعل يناشده [ ياعم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله] فلم يؤمن ولم يقبل ومات آخر ما مات على دين عبد المطلب، وأنزل الله سبحانه في ذلك يخاطب نبيه: {إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين}، ومع أنه قال له: {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم}، فعلم أن الهداية المنفية هي هداية التوفيق، وأن المثبتة هي هداية الإرشاد.
ولما
كانت هداية التوفيق لا يملكها إلا الله وحده، وليس لأحد سواه فيها قليل
ولا كثير وجب على الناس أن يسألوه سبحانه أن يهديهم ويلحوا عليه في ذلك
أعظم الإلحاح؛ فهي أجل المطالب وأولاها وأعظمها وأعلاها، وبدونها يعيش
الإنسان حياة الغواية ثم في الآخرة إلى أمه الهاوية، وما أدراك ما هيه،
نار حامية.
وكل الخلق محتاج لهذا الدعاء وإدامته: فمن لم يكن من أهل الإيمان والهدى
يحتاج أن يسأل الله أن يوفقه للحق والهدى، وأن يجعل الإيمان في القلب،
ويحببه إليه ويزينه فيه، ويجعله مؤثرا له راضيا به راغبا فيه.
وأما من كان من أهل الإيمان والإسلام فلا يستغني أيضا عن ذلك، وقد ذكر ابن
القيم رحمه الله كلاما رائعا في هذا المعنى في كتابه العظيم "مدارج
السالكين" أبسط لك معناه: يقول:
إن ما نجهله من العلم والحق أضعاف ما نعلمه منهما، فنحن نحتاج أن نسأل الله أن يهدينا لمعرفة ما نجهله منه.. فهذه هداية.
وإن
ما نريد فعله (أي تتوجه إليه إرادة الفعل) مما نعلمه، يكاد يكون مثل الذي
نريد فعله أو أكثر منه، فنحتاج أن يوجه الله إرادتنا لتحب هذا الفعل
وتريده.. وهذه هداية أخرى.
وما
نقدر على فعله مما نريده قد يزيد على ما لا نقدر عليه منه.. فنحتاج أن
يرزقنا الله القدرة على فعل ما نريد بعد أن يهدينا لإرادته.. وهذه هداية
ثالثة.
ثم إن ما نعرف جملته من الحق ولا نهتدي لتفاصيله فأمر يفوت الحصر، ونحن محتاجون إلى الهداية التامة في كل هذا.
فمن
كملت له هذه الأمور كلها (علم كامل، وإرادة تامة لفعل جميع الحق، وقدرة
وافية لفعل كل الحق، وإحاطة بتفاصيل الحق وجملته.. وهيهات) كان سؤال
الهداية له سؤال التثبيت والدوام حتى يلقى الله وهو مستكمل لجميع ما سبق.
هداية أخرى:
وهناك هداية أخرى بعد كل هذه الهدايات أنقل لك فيها كلام ابن
القيم بنصه يقول: "وللهداية مرتبة أخرى، وهي آخر مراتبها، وهي الهداية يوم
القيامة إلى طريق الجنة، وهو الصرط الموصل إليها، فمن هدى في هذه الدار
إلى صراط الله المستقيم الذي أرسل به رسله وأنزل به كتبه، هُدى هناك إلى
الصراط المستقيم الموصل إلى جنته ودار ثوابه، وعلى قدر ثبوت قدم العبد على
هذا الصراط الذي نصبه الله لعباده في هذه الدار يكون ثبوت قدمه على الصراط
المنصوب على متن جهنم، وعلى قدر سيره على هذه الصراط يكون سيره على ذاك
الصراط.. فمنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالطرف، ومنهم من يمر كالريح،
ومنهم من يمر كشد الركاب، ومنهم من يسعى سعيا، ومنهم من يمشي مشيا، ومنهم
من يحبوا حبوا، ومنهم المخدوش المسلم، ومنهم المكردس في النار.. فلينظر
العبد سيره على ذلك الصراط من سيره على هذا حذو القذة بالقذة، جزاء وفاقا، {هل تجزون إلا ما كنتم تعملون}.
ولينظر
الشبهات والشهوات التي تعوقه عن سيره على هذا الصراط المستقيم فإنها
الكلاليب التي بجنبتي ذاك الصراط تخطفه وتعوقه عن المرور عليه، فإن كثرت
هنا وقويت فكذلك هي هناك، {وما ربك بظلام للعبيد}".
فظهر
مما سبق أن العبد محتاج إلى الهداية أعظم من حاجته إلى الطعام والشراب
والماء والهواء، ومطالب بسؤال الله إياها على الدوام.. وهو ما أمر النبي
صلى الله عليه وسلم به سيدنا عليا رضي الله عنه أن يقول: اللهم اهدني
وسددني.. ونحن أيضا نقول: اللهم اهدنا وسددنا، بمنك وكرمك يا أكرم
الأكرمين.